مينا عادل جيد
ولد الأب الدكتور هنري عيروط مؤسس جمعية الصعيد في 20 مايو1907، وهو ابن أسرة ميسورة جاءت من سوريا إلى مصر في عام 1818، وابن المهندس المعماري الشهير حبيب عيروط، الذي شارك في تخطيط وبناء ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة. دخل هنري حبيب عيروط الرهبنة اليسوعية سنة 1926 وكان عمره تسعة عشر عاما، ثم سافر إلى فرنسا ليتمم دراسته هناك.
وفي خريف 1937، لم يكن الأب عيروط قد رسم كاهنا بعد، ولكنه كان طالب في الإكليريكية اليسوعية بمدينة ليون بفرنسا، وكان من قوانين الرهبنة أن يخرج الطالب إلى المجتمع ليتدرب في الحياة العملية قبل سيامته كاهنا، واختار هنري عيروط أن يقضي تدريبه المدني في مصر، مسقط رأسه.
ولما جاء إلى مصر ليقضي تدريبه المدني فيها، سمع وقتها لغطا بين رؤساء الآباء اليسوعيين عن إغلاق مدارس الصعيد التي يديرونها نظرا لقلة الموارد المالية، وقد كانت 40 مدرسة ريفية ابتدائية مجانية كان الآباء اليسوعيين قد أنشئوها في الماضي في قرى الصعيد، فأراد هنري عيروط زيارة صعيد مصر ورؤية هذه المدارس، وكانت أول مرة تطأ فيها قدماه أرض الصعيد.
نزل ضيف على المعهد الإكليريكي بطهطا في سوهاج، وطلب أن يتنزه مع طلاب المعهد خارج المدينة ليشاهد ريف مصر، وعلى شاطئ النيل بجزيرة الخازندارية وتحت ظلال النخيل، جلس مع طلاب المعهد الإكليريكي يتجاذب معهم الحديث. وأبدى عيروط إعجابه بمناظر الريف الجميلة. ثم تطرق إلى معيشة سكان الريف، ودخل بعدها في الحديث عن هدف زيارته إلى الصعيد، وأخذ يسأل عن أهمية المدرسة بالنسبة إلى القرية المصرية، وراح يبسط آراءه عن خدمة الريف، وكيف أن العلم ضروري لتقدم هذا الريف من الناحية الاجتماعية والإنسانية، وتمنى بعد سيامته كاهنا أن يخدم في الصعيد، ثم زار بعض القرى الأخرى بالصعيد وبعدها سافر هنري عائدا إلى ليون لإتمام دراسته.
بداية تعلقه بالدراسات الاجتماعية
بعد عودته إلى فرنسا، توجه اهتمامه للدراسات الاجتماعية عن الفلاح المصري والكشف عن صميم الريف في الصعيد، وقرر أن ينظر بالبحث والدرس إلى الصعيد الذي لا يعرف منه سكان الحضر إلا النذر اليسير. وقام بهذا التحقيق الدقيق لا كما يقوم به السائح أو الهاوي، وإنما عكف عليه كما يعكف عالم الاجتماع. وتمخض هذا الجهد العلمي عن بحث أنثروبولوجي متميز عن عادات الفلاح المصري وطباعه، حصل به على درجة الدكتوراه من جامعة ليون بفرنسا عام 1938، وكتب له مقدمته البروفيسور أندريه أليكس رئيس جامعة ليون وقتذاك، ثم صدرت الرسالة في كتاب باسم " الفلاحون " باللغة الفرنسية أولا، ثم ترجمت بعد ذلك إلى عدة لغات. وصدرت طبعتان بالعربية ترجم إحداهما عام 1942 د. محمد غلاب أستاذ الفلسفة بجامعة الأزهر.
وتقدم هنوري عيروط إلى لمسؤولين بالكنيسة ليسمحوا له بحمل المسؤولية الجسيمة- مسؤولية الاهتمام بمدارس الصعيد الأربعين المهددة بالإغلاق لقلة الموارد- وطلب منهم التصريح بتكوين "الجمعية الكاثوليكية لمدارس قرى الصعيد"، ورحب المسؤولون بهذا الطلب. وانشِأت جمعية المدارس المجانية في قرى الصعيد في أواخر عام 1940.
وسرعان ما تطور الأمر وتفرع النشاط في قرى الصعيد النائية التي لم يكن يصلها لا قطار ولا سيارة. وهنالك اهتم الأب عيروط بنشر العلم والمعرفة، وجمع حوله جيش من المتطوعين والشركاء والمتبرعين رجالا ونساء لرعاية شؤون المدارس، ولأن رسالته كانت في الأساس دعوة إلى العدالة الاجتماعية، فسعى لبناء مدرسة في كل قرية اكتشف أنها محرومة الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية، فكان إذا وطأ الأب عيروط أرض قرية، لمسها بيد سحرية وأحدث بها ثورة على الجهل، وثورة على المرض إلى أن بلغ- في غضون عشر سنوات- عدد المدارس المجانية مائة وعشرين مدرسة، ضمت قرابة 10000 تلميذ، و60 مستوصفا للرعاية الصحية لأهل قرى الصعيد النائية. وبهذا انتشل عيروط ما استطاع من أبناء الريف من حياتهم التي كانت فريسة للفقر والمرض والجهل، وكفل الصغار من أولاد الفلاحين، وكان يقول "العلم الذي لا يتحول إلى محبة علم باطل. إذا أحببنا الأطفال، أطلقنا عقولهم للمعرفة وأجسامهم للصحة ونفوسهم للمحبة..."
كان عيروط يملك ثروة طائلة تقدر بحوالي 150 ألف جنيه (وهو رقم ضخم للغاية وقتئذ) تبرع بها كلها إلى الجمعية، وكانت فلسفته "لا يوجد إنسان في الدنيا لا يستطيع أن يقدم خدمة لصديقه الإنسان". وفي 9 أبريل عام 1964 قابل الأب هنري عيروط الرئيس جمال عبد الناصر، وقد أبدى الرئيس المصري إعجابه الشديد بنشاط الأب هنري عيروط في الصعيد وحتى أنه قال له: "لقد قمت بالثورة قبلي".
امتاز الأب عيروط بسعة الأفق وفساحة التفكير، فأصبح حلقة وصل بين أتباع شتى الطوائف والأديان، وكان له صداقات متينة مع الجميع، وقال عيروط في ذلك: "سأذهب نحو الآخرين الذين هم فعلا آخرون، لمحاولة بناء روابط معهم... سأذهب إلى مغامرة التقارب المتبادل". من ناحية أخرى، كون عيروط جمعية "إخوان الصفا" التي تدعم الحوار المسيحي الإسلامي؛ وكان قد أسسها مع الأب الراحل جورج شحاتة قنواتي، والشيخ الراحل محمد يوسف موسى، والشيخ الراحل محمد بدران في عام 1944، والتي تحولت بعد ذلك إلى "جمعية الإخاء الديني".
ولعيروط دورًا لا ينسى في مساعدة اللاجئين بعد نكسة يونيو 1967، بعدما فوّضه الفاتيكان ليكون مسؤولا عن إرسال الإغاثة للاجئين القادمين من منطقة قناة السويس، ومن هنا تأسست «كاريتاس مصر»، والذي يعتبر الأب عيروط أول المحركين لها، وبها وزع المساعدات إذ كان نائب رئيس هيئة كاريتاس. وتجلى في ذلك الحدث مدى استعداده للتضحية بحياته حيثما كان يذهب إلى معسكرات اللاجئين من فلسطين ومنطقة القنال وسيناء، بالإضافة إلى دوره الوطني الجليل حينما مثل مصر في اللجنة التي ذهبت إلى قداسة بابا الفاتيكان ليشرح لقداسته عدالة القضية العربية وحقوق شعب فلسطين، وكان سببًا في نجاح البعثة.
كان الأب هنري عيروط على قناعة بأنه لا يجوز لإنسان أن يحيا في بيئة دون أن يتفاعل معها ويحس إحساسها ويشعر بمشاكلها ويعطي كل ما يملك في سبيل رفع مستوى حياتها في صورها المختلفة. وشهد له جميع من عاصروه على نكرانه لذاته وتضحيته بكل نفيس وغال في سبيل إسعاد الآخرين. وكان دائما يقول: "نعمل أولا ثم نتحدث، فقد تحدثنا كثيرا دون أن نعمل أي شيء". وحتى في السنوات الستة الأخيرة من حياته، حينما عين مدير لمدرسة العائلة المقدسة (1962-1968)، ذات المدرسة التي دخلها تلميذ وعمل فيها مدرس في شبابه، خصص عيروط يوم الجمعة من كل أسبوع ليخرج الطلبة من أبناء الزمالك وجاردن سيتي في معسكرات عمل في حي بولاق والشرابية والسيدة زينب، يمحون أمية الأفراد، والتوعية من أجل نظافة الأحياء والتعرف على المشاكل التي تعانيها ليعودوا بتقارير عن مشكلات المجتمع، وبالتالي يحاول الأب عيروط أن يحلها.
ليس مصر فقط بل أفريقيا أيضا
وفي أيامه الأخيرة توسعت أعماله إلى الدول الإفريقية ودول منابع النيل بهدف تطوير القرى الإفريقية، وذلك من أول أغسطس 1968 إلى مارس 1969، عكف فيها عيروط في جولة إفريقية استمرت أكثر من ستة أشهر، اهتم خلالها بأوضاع الفقراء في وسط وجنوب إفريقيا ليقدم عنهم دراسة قيمة، وقد نشرت خبرته في هذا المجال في كتاب صدر باللغة الفرنسية بعنوان Liaisons Africaines نشرته أسرته بعد وفاته، ويتضمن الكتاب ملخصًا وتقريرًا عن زيارته لهذه البلاد.
بعد زياراته لإفريقيا، سافر عيروط إلى نيويورك ليلقي محاضرات عن هذه الجولة الإفريقية في جامعة كولومبيا الأمريكية، ولكن في يوم خميس العهد، فاجأته أزمة قلبية هناك، ثم في اليوم التالي، يوم الجمعة الحزينة الذي وافق 10 أبريل عام 1969، أذاعت وكالات الأنباء خبر وفاة رجل عظيم وهو الأب الدكتور هنري عيروط، وجاء جثمانه إلى مصر ودفن في مدافن الآباء اليسوعيين في المطرية بالقاهرة. وفي عام 1969، وبعد وفاة الأب عيروط، كرم الرئيس عبد الناصر اسمه وقلده قلادة الشرف من الدرجة الأولى (وسام الاستحقاق). وتعتبر هذه القلادة أهم وسام يمنح للمصريين، وقد أتت تكريمًا لحياة وأعمال هنري عيروط، وسُلِّمَت لإحدى أخواته، وأقيم الحفل في وزارة الشؤون الاجتماعية بالقاهرة بحضور وزير الشؤون الاجتماعية ووزير الصحة، والآباء اليسوعيين، وأعضاء من الجمعية.
المصادر : نشرة خاصة أصدرتها جمعية الصعيد في ذكرى الأب الدكتور هنري عيروط، وفيها بعضًا مما قيل من معاصريه في الجرائد والمجلات والمناسابات بعد رحيله.